ديــــــار الغربــــــــــة
يخالجني شعور بأن الذي يكبر خارج وطنه لابد ان يندم، هذا حال كثير من المغتربين الذين اضاعوا عمرهم ثم اولادهم في الغربة.
ذلك لأن الانسان مهما كبر يبقى بلا جذور ومن ثم يمكن لأية هبة ريح ان تطيح به غير ماسوف على تعبه.
لقد عشت ولمدد متفاوتة في بلدان مختلفة ورأيت مغتربين عاشوا عمرهم في الغربة في بلاد عربية واخرى اوربية واغلبهم مثل السمك يتوقون حباً للعودة الى وطنهم ومناطقهم العتيقة.
ما حاسة الوطن هذه؟ ما شعور الغربة المرّ هذا لا سيما في بلاد غريبة الوجه واليد واللسان؟ وما سر انقطاع اناس عن اوطانهم حتى يصبحوا في ارذل العمر؟ ما الذي يجعل اناساً اشداء اقوياء كالصخر، يبكون بكاء الاطفال حينما يفارقون اوطانهم، علماً ان الاوطان البديلة قد تكون احلى واجدى؟ .
مهما كان المغترب مقتدراً، يبقى غريباً في النهاية، لا أحد يعرف ابن أية عائلة هو ومن أي حي أتى، سعره كأي مغترب بلا اصل ولا فصل... ناهيك عن معاناة لا آخر لها لا سيما حينما يتقدم العمر او يكبر الاولاد وتكثر متطلباتهم، فأذا ما عادوا الى الوطن عادوا غرباء ايضاً، غرباء ومحسودين (على الشيخوخة والسمنة والضغط والسكري) وهذه قاصمة الظهر لقد عهدت اناساً كثيرون يقولون لو كان هذا الطبيب او ذاك الاستاذ ناجحاً في وطنه لما أتى طلباً للرزق! الذين يقولون ذلك يعرفون مدى صعوبة ان يترك المرء وطنه هائماً على وجهه في بلاد الله الواسعة، واحتمالات الفشل والتحطم قائمة كل الوقت.
لا يعرفون ان المرء بحاجة الى شجاعة حتى يتخذ قراراً بالهجرة والرحيل وهم لا يعرفون ان الذي يخدمهم كان من المتميزين في بلده. غير ان على الغريب ان يسمع الكثير ويسكت، فما جدوى مناقشة هكذا امور وهو غريب في النهاية؟ ربما لا يفهم المنتقد ان عمل المغترب دليل حاجة لو انتفت لما وجد فرصة العمل.
انظروا الى امريكا، كلها غرباء، لكنها اقوى بلد في العالم، واشهر الاطباء فيها من العراق... ولولا العباقرة الغرباء الذين وجدوا تربة مناسبة للابداع وتسلق المناصب تبعاً للكفاءات ما كانت امريكا اليوم مسيطرة على العالم، ومع كل ما يتمتع به العراقي الامريكي من (عز) ومال يبقى غريباً في بلاد قامت على الحرية.
هذا عن الغربة الخارجية، فماذا عن الغربة الداخلية؟ ان أسوأ انواع الغربة هي الغربة داخل الوطن، وقد قال "ابو حيان التوحيدي" منذ زمن طويل:- "واغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه" ويقول الروائي المغربي "الطاهر بن جلون":- "لقد مزقتني الازدواجية لغة فرنسية وقلب عربي".
ولعل في شعور هذا الكاتب الكبير ما يجعلنا ندرك أنه لا بديل عن الوطن مهما يكن الثمن، او كما قال الشاعر:-
"هب جنة الخلد عدن لا شيء يعدل الوطن"